الأحد، 14 يونيو 2020

كيف أوقعت القلم - مقالة


كيف أوقعت القلم
بقلم. محمد جميل

كتب حنا مينه فيما كتب من أعماله مقالةً لمجلة الآداب أسماها "كيف حملت القلم" تحدث من خلالها عن تجربته الإنسانية مستهلًا ما كتبَ بالتندر والإشفاق على نفسهِ وأبناءِ حيه لفهمهم  مصطلح حملَةِ الأقلام فهمًا خاطئًا، موضِحًا أن عقدة نقص الأمية قد حذت بأهالي الحي أن يبروا أقلامهم ويثبتوها في جيوب ستراتهم ومن ورائها منديل مخرم الأطراف، للزينة ليظهروا بمظهر "الحمَلةِ"  عجبًا وخيلاءَ، على رغم خلو أذهانهم من  الحروف والجمل أو أدنى فكرة عنها.
وإذ يختتم مينا مقالته التي ابتدأها بالتمهيد بالمواقف الطريفة وصولًا إلى ذروتها من شجون اجتماعي وسياسي وثقافي، فهو من حيث قد حمل القلم وركزه على الورق، فأنا قد أوقعته من فوري حتى صار ثلاثة أجزاء، الجزء الأول للدهشة والإعجاب، والجزء الثاني لأؤكد لنفسي حاجتها للاتضاع أمام البحر المملوء فُلْكًا تتقاطرُ منها اللغةُ فكِرًا وأدبًا واستفاضة، وجزء أخير خشيةً على القلم من المرحلة الراهنة التي صدأت وتكسرت الأقلام فيها أيَّما تكسر.
 ولمَّا كان أهالي الحي في طفولة حنا مينا يحملون الأقلام فرحين بها ولو رياء فيما بينهم، فإن في بلداننا العربية باتَ حمل القلم مقتصرًا على موظفي الدوائر العمومية والخاصة والبنوك، لا لشيء بل لتسجيل الأسماء وزج التواقيع على الإيصالات والأوراق الثبوتية وغيرها، مما تتوجبه طبيعة العمل، حتى شاخت الخطوط وأخذ يمعن فيها الكساحُ والعرجُ والشللُ النصفي والهزال وفقر الحبر وأمراض المفاصل من كل فئة ونوع.
وأمَّا عمَّا يحُمل في الأحياء في بلداننا وبلداتنا وواقعنا اليومي المعاش فلا سِرَّ ولا إسرار في ذلك فهي: المطوى والبوما في الجيوب أو الجوارب، وبخاخ الغاز المسيل للدموع في حقيبة السيارة، والمفكات أو المفاتيح في دفة باب سيارة الأجرة، انتهاءً بالعصي الخشبية والحديدية والكهربائية مما خفَّ حمله وسهُل استخدامه، وهكذا تحمل أنواع السلاح الأبيض على اختلافه بين فئات المجتمع في غابتنا الإسمنتية، التي تقعِرُ أرواحنا كما تقعر وجه الأرض وتقوِّض سجادته الخضراء.
وللإجابة على السؤال كيف أوقعت القلم؟! فأقول قد أوقعته لما كانت التربية الابتدائية والإعدادية والثانوية في المدارس تتطابق بمواصفاتها والمعتقلات، حيث يعتقل التعبير والإبداع، ويسترسل المعلمون دونما الطلبة في المناهج، مقيدين لخيالاتنا واسئلتنا عند سلة القمامة في الزاوية، التي لطالما شُبحَ الطلبة عندها على رجل واحدة، وما هم بأهلٍ للشغب، إلا أنهم أطفال يكونون شخصياتهم بالتبرم والسخط والاحتجاج العفوي، ضجرين وباحثين عن مساحات خضراء وألوان زيتية ومرائي وصور  لا أكثر ولا أقل.  
 أقول أوقعت القلم عندما كانت ثقافتنا ثقافة تنمرٍ فكنا صغارًا نتنمر على بعضنا البعض إذ أبرز أحدنا شجاعةً أو ميزةً خاصة، فنظل عاكفين وراءه حتى نحني ظهره ونذيقه وبالًا وذلًا، لمجرد أنه حاول أن يكون منفردًا أو مميزًا، لأننا تعلمنا عن عائلاتنا أن نضرب بعضنا ضربًا مبرحًا، وأن يسود الواحد منا على الجميع وأننا لسنا سواءً كأسنان المشط، بل الفروق بيننا مؤكدة على أساس حجم العائلة والنفوذ المالي والوضع الاجتماعي، وأن المميز منا هو من يقهر الآخر ويسود عليه ويجعله تابعًا مُنصاعًا بالخوف والغلبة. 
بلى أوقعت القلم يوم لطمني معلم اللغة العربية على وجهي بشدة ونهرني لخطأٍ إملائي، ولم ينهر نفسه لسوء تعليمه أو يعاتب رفاقه من المعلمين، الذين فشلوا في إيصال المعلومات وتدشين الأساسيات فينا، وبالأيمان الغليظة أوقعت القلم عندما أدركت أنا وزملائي بوعينا الغرائزي أن مدارسنا حالت ساحات للتحدي والخصومة، وأن الأقلام والقراطيس والمساطر والعدة الهندسية، ما هي إلا أدوات للخدش والخمش والاعتداء.
 لقد أُزهِقت أنفاسُ وشهقاتِ القلم عندما تعالى المتخصصون وكثير من الخطباء والفصحاء على المنابر وفي الحلقات والندوات والأمسيات باللغة العربية فوق مستوى العامة بخطب وجملٍ مفخمة ومزوقة، وعندما أخذ كلامنا يكون مزجًا مركبًا بين لغتين هي العربية والانجليزية، لأننا بتنا نعتقد في عقلنا الباطن أن كلماتنا العربية ومرادفاتها لا تؤدي أغراضها المعنوية في الفهم والإيضاح فنقوِّي الجمل العربية بأخرى إنجليزية تؤدي المعنى عِوضًا عنها.
وأنا هنا لا أقلل من شأن اللغة الإنجليزية وأهميتها كونها لغة تعلمٍ وحوارٍ وأدب، فلا ضير من تعلمها واتقانها والتحدث بها على أوجهها، وليس اللغة الإنجليزية وحسب بل ولغات العالم أجمع وبإسهابٍ أيضًا، طالما لا تُحيَّدُ اللغة العربية وتُقدَّمٌ على أنها رمية عصرنا، ولغةً للشيوخ والصحافيين دونما الناس، وحِصةً صفية  هي الأنكد بين الصفوف وتخصص الجامعة الذي تَعزِفُ عنه النفوس وتفارقه الأنام.
واسأل هنا هل استنكف مثقفو القرنِ الواحدِ والعشرين أن يُعلِّموا اللغة العربية، أم أن أعينهم أشاحت مرةً واحدة إلى برامجِ الواقعِ وعواصم العالم عبر فضاء الإنترنت، وأخذ بهم الاستحياء من اللغة العربية شزرًا، حتى انشغلوا بالثقافة  الثانوية التي لا مانع من استيرادها ودمجها بثقافتنا دمجًا مسؤولًا، شريطة ألا يُمحق تميزنا الحضاري وخصوصيتنا من التاريخ والثقافة الأصلية، التي بوسعها أن تكون كونية هي الأخرى إذا ما أوليناها اهتمامنا وحبنا ورعايتنا.

وكي لا يظن أحد أن هذه دعوة إلى الانغلاق والعودة إلى الوراء،  فأقول بل هي دعوة للنزول إلى الشارع العربي من قبل جميع النخب والطلائع المثقفة ومغادرة المكتب الهانئ والدافئ والمكتسب الفردي الصغير وهذه المرة لا لإبهار الجماهير بالقصائد والخطابات، وإنما لتنظيم البرامج والخطط الحقيقية لاستنهاض الأفراد والمجموعات من خلال التدرج وإبداع مساحات التعليم سواءً على الانترنت أو في الفضاءات الواقعية والالكترونية جمعاء.

والمطلوب الآن أن نستنهض استخدامات اللغة والمعارف على اختلافها وأن نحبب بها ونسهل تناولها، ما سيرفع تلقائيًا من شأن لغتنا وثقافتنا مرةً واحدة وبوتائر متتالية ووقت قياسي، دونما أن نتقاذف التهم والعويل بينما يتلطى الواحد منا  على فراشه الوثير بصحبة فناجين القهوة وأكواب الشاي وأعقاب السجائر، ولمرةٍ واحدة لنقل خيرًا ونستطرد فلا وقت للخصومة وتعزيز الفردانية، بينما الأدوات هي ملكٌ مشاع يمكن استخدامها إلى منتهاها وتوظيفها في الأطر كافة، نعم أيها الأعزاء لمرةٍ واحدة قبل أن يتعاظم الردم على الطريق وتمعن السكاكين في دمانا والشقوقُ والصدوع في أقلامنا السائبة.